تنمية الجهات في تونس بين الموجود والمنشود

اخر تحديث : 05/01/2014
من قبل | نشرت في : الإقتصاد,تونس

مراد الحطاب

بقلم مراد الحطاب

مختص في إدارة المخاطر المالية

غداة انطلاق الثورة التونسية وبعد تكون نسيج كبير من الاحزاب والجمعيات بدا للجميع ان الرهان الاول للنجاح يرتبط إلى حدّ بعيدبمدى الالتزام بمقتضيات ايجاد حلول لإعادة تقسيم الخارطة الجهوية بحثا عن حلول لانخرام تنموي شمل جهات كبرى بالبلاد على مدى سنوات طوال ومن هنا طرحت عدة افكار جديدة في هذا المحور المصيري على غرار ارساء منظومات للتنمية المحلية كما برزت اطروحات حول مسالة التوازن الجهوي بينما رأت اطياف اخرى ضرورة التجديد الكامل منهجيا في هذا الاطار لإنقاذ المناطق الداخلية التى تعاني من الخصاصة والحرمان .

في هذا الإطار ، ابرزت معظم الدراسات ورؤى الخبراء ان الاشكالات الكبرى تتمحور اساسا في توفير الإعتمادات اللازمة خاصة كانت أم عمومية لدفع الاستثمار باعتباره الضامن الوحيد لتحقيق النمو ومعالجة معضلة البطالة والخروج بعديد المناطق من العزلة ومن بداية تشكل ملامح فراغها ديمغرافيا باعتبار ملاحظة حركة كبيرة للهجرة الداخلية ناهز دفقها العددي 160 الف سنويا خلال السنوات الخمس الاخيرة ومن هنا كان المرور الى تطبيق خطط او رسم ملامح برامج شاملة مسالة تطرح تحديات عميقة ومعقدة .

واقع التنمية الجهوية في تونس : معطيات عامة

في البداية تشير نتائج مذكّرات تنفيذ ميزانية الدولة بعنوان السنة المالية 2013 والمعطيات المتعلقة بالميزانية التكميلية بالنسبة لنفس السنة إلى أنّ الاعتمادات المرصودة للتنمية إجمالا تناهز 5500 مليون دينار وأنّ الإنجازات المتوقع تنفيذها في موفى ديسمبر 2013 ستصل الى 3980 مليون دينار وهو ما يعادل نسبة إجمالية تساوي 79% تقريبا ويضاف إلى ما سبق بيانه أنّ ميزانية إقفال السنة المنقضية قد راجعت الاعتمادات المخصصة في محور التنمية بتعديل يقدر ب 700 مليون دينار.

تعتبر هذه المعطيات ذات دلالة كبرى باعتبار ان عدم تحقيق النسبة الكاملة للانجاز التنموي يعود الى معوقات كبيرة ومعقدة رغم ان الامر يرتبط بمطالب شعبية واقتصادية واستثمارية حارقة وهي اذا اردنا تلخيصها تتمثل اساسا في صعوبات واجهها بعض المقاولون لانجاز البنية التحتية باعتبار عدم الاستقرار الامني في بعض المناطق اضافة الى عدم مواكبة عديد المؤسسات المالية بالخصوص لتطلعات المستثمرين ، على مستوى تمكينهم من الاقراض اللازم ، رغم ابدائهم رغبة كبرى للانتصاب في الجهات الداخلية باعتبار التشجيعات المالية و الجبائية الموجودة في هذا الاطار لاسيما في اطار القطاع الصناعي والتحويل .

ومن هنا تبرز صعوبة تحليل متغيرات التنمية وارتباطها بعديد الجوانب مما يجعل البحث عن حلول او خطط كمية و كيفية ملائمة ، في هذا الاطار ، أمرا بالغ الدقة على جميع الأصعدة بما يتطلبه من دراسات عميقة تجمع بين كافة المتدخلين من مختصين في الإحصاء والتحليل الاقتصادي والباحثون في علم الاجتماع والمستثمرون وهياكل الاسناد المالي واللوجستي ومختلف الأطر والمنظمات الفاعلة في المجتمع .

ومن المفارقات في تونس أنّ أكثر الجهات التي تعاني من صعوبات في الجانب التنموي هي الأخصب والمتمتعة بكافة أسباب النجاح لتكون جهات واعدة ومزدهرة بجميع المقاييس وهو ما يدعو إلى تجنب الإسقاطات والأحكام السلبية التي تشرع للفشل وتجعل من من جهة ما وكأنها خلقت لتعيش الضعف التنموي كما يدعو الخطب قطعا الى تجنب التقسيم بين المناطق لنعت البعض منها بالجهات الداخلية و اخرى بالمناطق الساحلية وهو تصنيف يرجع الى عقود خلت وهو ما يجعل منه اليوم فاقدا لأي اساس علمي .

من الناحية المنهجية ، تجدر الاشارة في البداية إلى أن البحث في أسباب الضعف التنموي يحتاج إلى التعمق في دراسة الجوانب المتعلقة بصفة مباشرة بالجهات على غرار العوامل البشرية والتاريخية والثقافية وتلك المرتبطة بالموارد الطبيعية والوضع الجغرافي إضافة إلى البحث في جوانب غير مباشرة مثل الدفق الاستثماري بالمعنى العام للطرح والبنية التحتية والظرفيات الاقتصادية والاجتماعية المتواترة وما إلى ذلك من عوامل.
غير أن قراءة المسألة التنموية في بعدها الشامل لا يجب أن يقلل من أهمية ضرورة اعتماد المسالك المناسبة للإضافة و استشراف الحلول و البدائل التنموية الممكن اقتراحها.

وفي هذا السياق وعلى العكس من عديد الأطروحات فان الاحصائيات الصادرة عن عدد من المؤسسات الدولية وبعض المعاهد المختصة في تونس تشير الى ان بعض الجهات الداخلية قد تلقت نسبيا طيلة العقود الماضية البعض من الزخم الاستثماري إلى جانب الساحل التونسي وإقليم تونس الكبرى حيث قدّر مؤشر الاستثمارات الاجمالية المراكمة طيلة الفترة الممتدة بين سنة 1992 و 2010 بما قدره في المعدل بين 3 و 5 آلاف دينار بحساب المواطن الواحد غير أن الحذر واجب عند قراءة هذه الأرقام رغم صدورها عن هيئات مختصة ، ذلك أن عديد المشاريع التي تم بعثها في بعض الجهات ذات الأهمية على المستوى الوطني كالسدود الكبرى مثلا تقيد محاسبيا كاستثمارات خاصة بالجهة التي أقيمت فيها رغم أن نفعها يعود على عديد الجهات وهو ما يقتضي عدم ادراجها بالحسابات الوطنية المتعلقة بالاستثمار بالنسبة للجهة المعنية جغرافيا بالمشروع خصوصا وأن عددا من الاستثمارات تحسب في هذا السياق دون أي ريع للجهة وفي بعض الحالات القليلة يمكن ان تكون لها انعكاسات مكلفة على المستوى البيئي على المنطقة وهو ما يؤثر، احيانا ، على قدرتها على خلق القيمة المضافة الاقتصادية والاجتماعية داخلها.

وفي هذا الصدد ، تشير معطيات ميزانية الدولة بعنوان السنة المالية 2014 ، الى زيادة في الاعتمادات المرصودة للتنمية بواقع 16,7٪ وترحيل ما رصد ولم يحقق من مخصصات تتعلق بسنة 2013 رغم ضغط ارتفاع نفقات التصرف المتكونة بالأساس من الاجور وأعباء التسيير العادي للإدارة الذي ناهزت نسبته 19٪ خلال الأشهر التسع الأولى من سنة 2013 مقارنة بنفس الفترة من السنة السابقة اضافة إلى النسبة غير المرضية الى حد ما للاستثمار الخاص التي لا تتجاوز مقارنة بالناتج الداخلي الخام 21٪ وذلك حسب قوائم الحسابات الوطنية الصادرة عن البنك المركزي التونسي مقابل تخصيص خطوط اعتماد لوزارة التنمية الجهوية والتخطيط في حدود 39،4 مليون دينار تصرفا و410,6 مليون دينار تجهيزا .

وتبين قراءة ارقام سنة 2013 أن الاستثمارات لاسيما الصناعية المفصح عنها في الجهات المصنفة على مستوى الأولوية في التنمية من قبل وكالة النهوض بالصناعة والتجديد بلغت قيمة مرضية قدرت ب 1685,9 خلال الأشهر العشر الأولى من سنة 2013 ويمكن ان تصل الى 2201,3 مليون دينار في نهاية العام المنقضى باعتبار مساهمة ولاية سيدي بوزيد التي ناهزت فيها الاستثمارات 579,7 مليون دينار تبعا لإنجاز وحدة تصنيع إسمنت وتحقيق ولاية صفاقس انجازات فاقت 366,5 مليون دينار اضافة الى تسجيل استثمارات معملية وتحويلية بالجنوب بقيمة 207,2 مليون دينار وكانت الأمور اقل زخما بمناطق الشمال والوسط الغربي اذ لم تتجاوز الاستثمارات تقريبا ال 111,3 مليون دينار .

لمحة عن التدخلات الحكومية في باب منح الاستثمار والمساهمات في مشاريع التنمية بالجهات

 

بلغ عدد المشاريع التي تحصلت على منح استثمار بعنوان التنمية الجهوية ، خلال الأشهر العشر الأولى من سنة 2013 ، 220 مشروعا بقيمة استثمار جملية ناهزت 384,4 مليون دينار مقابل 195 مشروعا بواقع غلاف استثماري اجمالي يساوى 512,4 مليون دينار خلال نفس الفترة من السنة التى سبقتها  لكي يتجاوز عدد مواقع الشغل المبعوثة ، في هذا الاطار ، 7671  مقابل 6238  موطن عمل سنة 2012  خلال نفس الفترة قيد الدرس وعلى أساس ما سبق ذكره استقرت القيمة الاجمالية لمنح الاستثمار 50,3 مليون دينار مقابل 42,7 مليون دينار في موفى أكتوبر 2012 وهو ما يمثل تطورا بنسبة 15,1٪ .

وبالنسبة للمشاريع التي تحصلت على مساهمات الدولة ومنح الاستثمار المخصصة للباعثين الجدد والمؤسسات الصغرى والمتوسطة فإن عددها قد انتقل بصفة ملحوظة من 87 مشروعا سنة 2012 بواقع استثمار قدر ب 121,3 مليون دينار الى 123 مشروعا يقابلها غلاف استثماري يعادل 149،3 مليون دينار في سنة 2013 وهو ما مكن من بعث مواطن شغل لامس عددها 3780 إلى موفى الشهر العاشر من السنة الفارطة مقابل احداث 2562 موطن شغل بفضل الالية المذكورة في نهاية اكتوبر 2012 وبالتوازي مع ما سبق ذكره ، ارتفعت القيمة العامة للمنح والمساهمات ب 27,3 مليون دينار مقابل 19,9 مليون دينار سنة 2012 وهو ما يعادل ارتفاعا نسبته 27,6٪  . (المصدر : وكالة التجديد والنهوض بالصناعة)

 

قراءة تحليلية

 

عموما ، يبرز تحليل المعطيات السابقة ان المحاولات الجارية للتخفيف من حدة وصعوبات التنمية في الجهات قد ابرز صعوبة تنفيذ البرامج المسطرة واعتماد القواعد التخطيطية المعتمدة لاسيما في مجال التصنيع الفلاحي وبعث وحدات جديدة وأصناف محددة من الصناعات المعملية وغير المعملية الخفيفة والتحويلية بالأساس وما إلى ذلك من قطاعات يمكن أن تؤدي دعم الجهات اقتصاديا واجتماعيا وهو ما يؤكد ضرورة التعمّق في دراسات الجدوى وتحديد اساليب تسويق ملائمة لخصوصيات الجهة بالتركيز على دعم الاتصال والإسناد واستخدام شبكات العلاقات وهي قنوات وسبل ضرورية.
على مستوى آخر ، تفسر الصعوبات التنموية المتواصلة في بلادنا بندرة فرص الالتقاء والتحاور وتبادل الأفكار على مستوى الاطارات والمستثمرين في المناطق وهو ما كان يسمح بتشكيل أطر مناسبة لتحقيق التناغم قطاعيا وفكريا ويعطي زخما من الأمل للمواطنين بعد معاناة طويلة من ضعف هياكل الإسناد والمؤسسات لا مركزيا فاقمه ضعف البرمجة والمنهجية والعلمية خلال سنوات عديدة. ويبقى العامل الاخير الذي جعل من حل أزمة التنمية في الجهات امرا صعبا و معقدا متمثلا في صعوبة الاستثمار وتهالك البنى التحتية وتشتت الأفكار .

رغم أن التفاوت الجهوي يمثل اشكالا عميقا في بلادنا نظرا لما يمكن أن يؤدي إليه من اضطرابات و صعوبات على مستوى ادارة الشأن الاجتماعي فان الخروج من هذا المأزق امر ممكن لا يقتصر إدراكه على توفير اعتمادات ضخمة فقط بل إنّ الأمر يتجاوز هنا التصوّر بكثير ذلك أن عديد التجارب السابقة في مجال ضخّ مصاريف كبرى للجهات قد بيّنت مرارا فشلها نظرا لعدم تنفيذها للنمو المدمج المطلوب .

ومن هنا ، فإن مواصلة دعم المخططات التنموية الملائمة يتطلب مزيد الاخذ بعين الاعتبار للدراسات المعمّقة التى يتحتم انجازها على مستوى ابراز الخصوصيات الجهوية والتناغم القطاعي وغيرها من المتغيرات المرتبطة والمتداخلة منهجيا في المنظومات التنموية عموما ، كما يتطلب العمل تحديد مؤشر كمي لكل جهة على مستوى رصد ميزانيات التنمية في شكل ترقيمات تتعلق بالأربعة عشر ولاية داخل البلاد وبالعشر ولايات الواقعة على الشريط الساحلي ، كما ينبغي أن تبني الدراسات المذكورة اعلاه على توجه متوازن واستشرافي وبالتالي يتم في توزيع الاعتمادات عدّة مقاييس موضوعية على غرار نسبة البطالة وحدود الفقر الدنيا والعليا وعدد السكان وما إلى ذلك من مؤشرات .

ومن هنا ، تتوضح أهمية اعتماد المقاييس العلمية لوضع الخطط التنموية المناسبة بالنظر للميزات التفاضلية جهويا من ناحية ولتقسيم اقتصادي واجتماعي محكم للـ 264 معتمدية بالبلاد غير متناغم بالضرورة مع التقسيم الإداري ، من ناحية أخرى .

ختاما ، يكون التصور موضوعيا ، إذا ابتعدنا عن التشكيلات التنموية الفوقية وذلك باعتماد لا مركزية اقتصادية ومالية وإدارية حقيقية إذ أنه من غير المعقول أن تنبع القرارات من المستوى المركزي مقابل إمكانية وضعها حيز التطبيق من خلال نسيج جهوي متكامل تجمّع فيه هياكل الإسناد وتبعث في إطاره شركات مالية للاستثمار التنموي مع العمل على توئمة كل جهة تونسية مع جهة أخرى مقابلة أجنبية ، كما أن مواصلة العمل لإعادة صيغ الحوكمة لتعطي المشاريع أكلها وتعود بالنفع مباشرة على سكان الجهات هو أمر ضروري يضمن للبلاد تبني المناهج الحديثة للديمقراطية الاقتصادية وتحقيق النمو اضافة الى تجنب الهزات داخليا وخارجيا.

 


Print This Post

كلمات البحث :;

اقرأ المزيد ...


نعلم قراءنا الأعزاء أنه لا يتم إدراج سوى التعليقات البناءة والتي لا تتنافى مع الأخلاق الحميدة
و نشكر لكم تفهمكم.

Les commentaires sont fermés.