الوثبة الحضارية بين الزبون والتلميذ. بقلم الأستاذ: عبد الحميد منصوري

اخر تحديث : 09/11/2012

إن الأمم تتداول على السيادة و الريادة، و تتناوب على قيادة ركب الحضارة بحسب قدرتها على امتلاك الإرادة والرغبة الجمعية في صناعة الفعل الحضاري، و إن التدافع على أبواب الحضارة والرقي لا يفوز به إلا من كانت له نفس تتوق إلى التعلم و الإكتساب و التثقف، و إن خطام الحضارة لا يساس إلا لمن اكتسب أخلاق صناعة الحضارة، و قد أكد المؤرخون و فلاسفة التاريخ أن التخلف ليس صفة تنطبع بأمة من الأمم أو جنس من الأجناس، كما أن التفوق الحضاري ليس طابعا أبديا تتحلى به أمه محددة دون غيرها، و لكن التدافع و التداول و الاختلاف صفاة ملازمة للفعل الحضاري و الحضارة .
و لايليق لأمة أو كيان بشري أن يستسلم لقدره، فيرضى بالتخلف و الفقر و يعتبرهما ضربة لازب لا فكاك منها و لا سراح، ولكن ما يليق بها هو أن يندفع الأفراد و قادة الرأي و المدنية فيها إلى خوض غمار الصراع و أن يتخذ ممن تفوق عليه قدوة، يدرس خطواته و أسباب نجاحه فيأخذ منها ما يناسبه ويكيف ما لا يتناسب مع سياقاته البشرية و الفكرية و الاجتماعية و القيمية، ولقد أعطت اليابان في العصر الحديث المثل والبرهان على ما نزعم، فقد خرجت الأمة اليابانبة من الحرب الكونية الثانية، مهزومة، منهكة، متهالكة القوى، لا تملك من مقومات التفوق والحضارة إلا الإرادة و الرغبة الجامحة في استعادة مجدها و الخروج من هزيمتها ووهدتها، وأول ما بدأت به هو اتخاذها من الغرب الذي هزمها أستاذا و قعدت له مقعد التلميذ، و ليس ذلك من قبيل الاستسلام أو الهوان و إنما هو التصرف الحضاري اللائق لمن أراد نهوضا من بعد كبوة، فالتلميذ يمكن أن يكتسب معارف الاستاذ إذا احسن التعلم ونهل بنهم من علوم أستاذه ومعارفه و له كذلك أن يتفوق على أستاذه، فلولا حدوث ذلك ما تقدم علم، و ما كان لكرسي العلماء من يشغله بعد رجيلهم، و لقد تنبه لهذه المسألة المهمة الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله عندما أشار إلى « الاختلاف في النظرة بيننا كأمة عربية وبين الأمة اليابانية فيما يتعلق بالمواجهة مع الثقافة الغربية الطاغية والآخذة في الانتشار والسيادة، كان يتلمس أبعاداً نفسية وإنسانية ضرورية لتحول المهزوم الى منتصر أو استشعار الهزيمة النفسية حتى قبل أن تقع مادياً، وشتان بين الموقفين، فاستطاع التلميذ ( الأمة اليابانية ) أن تتعلم وربما تتفوق على الحضارة الغربية وبقي الزبون المستهلك ( الأمة العربية ) في طابور المستهلكين، و الزبون لا يمكنه و إن داوم على استهلاكه برتابة و استمرار إلى منتج أو مسوق، و المستهلك الدائم لا يمكن له أن يخرج من شروط الهزيمة وأولها الإملاءات الفوقيــــــة للمنتج.
لقد كان ذلك مشهوداً طوال العقود الماضية التي حاولت فيها الأمة أن تبني إرادتها من خلال الناصرية مثلا أو العديد من التيارات الثورية و التقدمية، ولكن وقوفنا في طابور المستهلكين هو العائق الأوّل، لقد شكلت الثقافة الاستهلاكية وعينا وارتبطت نخبنا بالمنتج الأجنبي وتعانقت مصلحة الطرفين في إبقاء الوضع على ما هو عليه، شعوب مستهلكة وريع يتدفق، ولايصنع المال و عقلية الاستهلاك فعلا حضاريا ناضجا، فالتشوه الذي تعيشه أمتنا هو في الحقيقة من نتاج العقلية الاستهلاكية التي تتعامل مع الوضع وإفرازاته كما هو، بينما التحول الحضاري هو من نتاج العقلية المنتجة والمتغيرة والمواكبة للعصـر.
إن الهزيمة لاحقة لا محالة بالمستهلك المحض في عالم اليوم وثقافة الاستهلاك فقط ثقافة مهزومه و لقد ساهم الريع النفطي في تغطية عيوب التخلف من خلال التكديس للمنتج الحضاري المستورد، والتغيير إن كان ثمة تغيير لابد أن ينبع من مسألتين مهمتين هو أن الوثبة الحضارية فعل إرادي بامتياز، و إن التتلمذ على من تفوق علينا ليس استسلاما وإمّعية وقابلية للإستعمار ولكنه الإستفادة من المنتج المتوفر مع ضرورة التفاعل الإيجابي مع الموروث الجمعي للأمة، الناتج عن تراكم معرفي وأخلاقي وقيمي لا يمكن أن ينصهر في بوتقة الآخرين .
بقلم الأستاذ: عبد الحميد منصوري


Print This Post

اقرأ المزيد ...


نعلم قراءنا الأعزاء أنه لا يتم إدراج سوى التعليقات البناءة والتي لا تتنافى مع الأخلاق الحميدة
و نشكر لكم تفهمكم.
  1. إسماعيل سلمان dit :

    مقال أكثر من رائع حيث تطرق فيه الأستاذ عبد الحميد إلى نقطة هامة من بين النقاط المهمة المطروحة وهي وجهة نظر مالك بن بي في التطور الحاصل في عالمنا والفرق بين اليابان والعرب وهو السر الدفين الذي به يمكن بناء هذه الأمة العربية ورفع الغمة عنها

  2. إبراهيم جلول dit :

    إن الذين يسعون لوجود امة من جديد تفكيرهم مقبول ولكن كيف ننقل القبول إلى تحول مقبول مقدور عليه والأستاذ عبد الحميد منصوري أعطى نموذجا يمكن إعتماده صورة ننسخ منها على الطريقة الحديثة لكي تنهض شعوبنا ونولي كبيرنا عقلا وفكرا وجهد وقدرة لمعرفة معطيات الطريق والوصول لتبريكات ربانية نسود بها إن كنا أهلا لذلك؟مشكور أستاذ عبد الحميد ولكل طاقم الموقع

  3. مجول طه dit :

    مقال رائع استطاع الاستاذ ان يضع حدا فاصل بين الحالة البغبغائية المتمثلة في تقليد المغلوب للغالب وبين النهضة التي تتطلب التعلم والاجتهاد في كسب المعارف الحضارية لنصنع منتجا كامل الدسم وخال من قيود التبعية.شكرا لك استانذنا الكريم